فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

سورة العلق:
{اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خلق (1)}
في هذه الآيات الخمس تسع مسائل مرتبط بعضها ببعض ارتباط السبب بالمسبب، والعام بالخاص، والدليل بالمدلول عليه، وكلها من منهج هذا الكتاب المبارك. وفي الواقع أنها كلها مسائل أساسية بالغة الأهمية عظيمة الدلالة.
وقد قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها وأمثالها من السور التي فيها العجائب، وذلك لما جاء فيها من التأسيس لافتتاحية تلك الرسالة العظيمة، ولا تستطيع إيفاءها حقها عجزًا وقصورًا.
وقد كتب فيها شيخ الإسلام ابن تيمية بأسلوبه مائتين وعشرين صفحة متتالية، وفصلًا آخر في مباحث تتصل بها، ولو أوردنا كل ما يسعنا مما تحتمله، لكان خروجًا عن موضوع الكتاب، ولذا فإنا نقصر القول على ما يتصل بموضوعه، إلا ما جرى القلم به مما لا يمكن تركه، وبالله تعالى التوفيق.
أما المسائل التسع التي ذكرت هنا، فإنا نوردها لنتقيد بها وهي:
أولًا: الأمر بالقراءة، يوجه لنبي أمي.
والثانية: كون القراءة هذه باسم الرب سبحانه مضافًا للمخاطب صلى الله عليه وسلم باسم ربك.
الثالثة: وصف للرب الذي خلق بدلًا من اسم الله، واسم الذي يحيي ويميت أو غير ذلك.
الرابعة: خلق الإنسان بخصوصه، بعد عموم خلق وإطلاقه.
الخامسة: خلق الإنسان من علق، ولم يذكر ما قبل العلقة من نطفة أو خلق آدم من تراب.
السادسة: إعادة الأمر بالقراءة مع وربك الأكرم، بدلًا من أي صفى أخرى، وبدلًا من الذي خلق المتقدم ذكره.
الثامنة: التعليم بالقلم.
التاسعة: تعليم الإنسان ما لم يعلم.
لما كانت هذه السورة هي أول سورة نزلت من القرآن، وكانت تلك الآيات الخمس أول ما نزل منها على الصحيح، فهي بحق افتتاحية الوحي، فكانت موضع عناية المفسرين وغيرهم، والكلام على ذلك مستفيض في كتب التفسير والحديث والسيرة، فلا موجب لإيراده هنا. ولكن نورد الكلام على ما ذكرنا من موضوع الكتاب إن شاء الله.
أما المسألة الأولى:
قوله تعالى: {اقرأ}، فالقراءة لغة الإظهار، والإبراز، كما قيل في وصف الناقة: لم تقرأ جنينًا، أي لم تنتج.
وتقدم للشيخ بيان هذا المعنى لغة وتوجيه الأمر بالقراءة إلى نبي أمي لا تعارض فيه، لأن القراءة تكون من مكتوب وتكون من متلو، وهنا من متلو يتلوه عليه جبريل عليه السلام، وهذا إبراز للمعجزة أكثر، لأن الأمي بالأمس صار معلمًا اليوم. وقد أشار السياق إلى نوعي القراءة هذين، حيث جمع القراءة مع التعليم بالقلم.
وفي وقله تعالى: {اقرأ} بدء للنبوة وإشعار بالرسالة، لأنه يقرأ كلام غيره.
وقوله تعالى: {باسم رَبِّكَ}، تؤكد لهذا الإشعار، أي ليس من عندك ولا من عند جبريل الذي يقرئك.
وقد قدمنا الرد على كونه صلى الله عليه وسلم لم يكتب ولا يقرأ مكتوبًا، من أنه صيانة للرسالة، كما أنه لم يكن يقول الشعر وما ينبغي له، إذًا لارتاب المبطلون.
كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ تتلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المبطلون} [العنكبوت: 48] الآية. وذلك عند قوله تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2].
وهنا لم يبين ما يقرؤه ولكن مجيئ سورة القدر بعدها بمثابة لما يقرؤه وهي: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1]، وجاء بيان ما أنزل في سورة الدخان {حموالكتاب المبين إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 1- 3].
وللشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان لذلك عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، فكأنه في قوة اقرأ ما يوحي إليك من ربك، والمراد به هو القرآن بالإجماع.
المسألة الثانية:
قوله: {باسم رَبِّكَ}، أي اقرأ باسم ربك منشئًا ومبتدئًا القراءة باسم ربك، وقد تكلم ربك، وأنت مبلغ عن ربك على حد قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3- 4].
وقوله: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99]، أي عن الله تعالى.
وكقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [النساء: 64].
ونظير هذا في الأعراف الحاضرة خطاب الحكم، أو ما يسمى خطاب العرش، حينما يقول ملقيه باسم الملك، أو باسم الأمة، أو باسم الشعب، على حسب نظام الدولة، أي باسم السلطة التي منها مصدر التشريع والتوجيه السياسي.
وهنا باسم الله، باسم ربك، وصفة ربك هنا لها مدلول الربوبية الذي ينبه العبد إلى ما أولاه الله إياه من التربية والرعاية والعناية، إذ الرب يفعل لعبده ما يصلحه، ومن كمال إصلاحه أن يرسل إليه من يقرأ عليه وحيه بخبري الدنيا والآخرة، وفي إضافته إلى المخاطب إيناس له.
المسألة الثالثة:
وصف الرب بالذي خلق مع إطلاق الوصف، وذلك لأن صفة الخلق هي أقرب الصفات إلى معنى الربوبية، ولأنها أجمع الصفات للتعريف بالله تعالى لخلقه، وهي الصفة التي يسلمون بها {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خلق السماوات والأرض لَيَقولنَّ الله} [لقمان: 25].
ولأن كل مخلوق لابد له من خالق {أَمْ خلقواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35]، وقد أطلق صفة الخلق عن ذكر مخلوق ليعم ويشمل الوجود كله، خالق كل شيء في قوله: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102].
{الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62].
{هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24].
وتلك المسائل الثلاث: هي الأصول في الرسالة وما بعدها دلالة عليها، فالأمر بالقراءة تكليف لتحمل الوحي، وباسم ربك بيان لجهة التكليف، والذي خلق تدليل لتلك الجهة، أي الرسالة والرسول والمرسل مع الدليل المجمل. ولا شك أن المرسل إليهم لم يؤمنوا ولا بواحدة منها، فكان لابد من إقامة الأدلة على ثبوتها بالتفصيل.
ولما كانت جهة المرسل هي الأساس وهي المصدر، كان التدليل عليها أولًا، فجاء التفصيل في شأنها بما يسلمون به ويسلمونه في أنفسهم، وهي المسألة الرابعة.
والخامسة: {خلق الإنسان من علق}، وهذا تفصيل بعد إجمال ببيان للبعض من الكل فالإنسان بعض مما خلق، وذكره من ذكر العام بعد الخاص أولًا، ومن إلزامهم بما يسلمون به ثم لانتقالهم مما يعلمون، ويقرون به إلى ما لا يعلمون وينكرون.
وفي ذكر الإنسان بعد عموم الخلق تكريم له، كذكر الروح بعد عموم الملائكة، تنزل الملائكة والروح فيها ونحوه، والإنسان هنا الجنس بدليل الجمع في علق جمع علقة، ولأنه أوضح دلالة عنده، ليستدل بنفسه من نفسه كما سيأتي.
وقوله: {مِنْ علق}، وهو جمع علقة، وهي القطعة من الدم، كالعرق أو الخيط بيان على قدرته تعالى، وذلك لأنهم يشاهدون ذلك أحيانًا فيما تلقى به الرحم، ويعلمون أنه مبدأ خلقة الإنسان.
فالقادر على إيجاد إنسان في أحسن تقويم من هذه العلقة، قادر على جعلك قارئًا وإن لم تكن تعلم القراءة من قبل، كما أوجد الإنسان من تلك العلقة ولم يكن موجودًا من قبل، ولأن الذي يتعهد تلك العلقة حتى تكتمل إنسانًا يتعهدها بالرسالة.
وقد يكون في اختيار الإنسان بالذات وبخصوصه لتفصيل مرحلة وجوده، أن غيره من المخلوقات لم تعلم مبادئ خلقتها كعلمهم بالإنسان، ولأن الإنسان قد مر ذكره في السورة قبلها {لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} [التين: 4]، فبين أنه من هذه العلقة كان في أحسن تقويم، ومن حسن تقويم إنزال الكتاب القيم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن المقام هنا مقام دلالة على وجود الله، فبدأ بما يعرفونه ويسلمون به لله، ولم يبدأ من النطفة أو التراب، لأن خلق آدم من تراب لم يشاهدوه، ولأن النطفة ليست بلازم لها خلق الإنسان، فقد تقذف في غبر رحم كالملتحم، وقد تكون فيه، ولا تكون مخلقة. اهـ.
وهذا في ذاته وجيه، ولكن لا يبعد أن يقال: إن السورة في مستهل الوحي وبدايته، فهي كالذي يقول: إذا كنت بدأت بالوحي إليه ولم يكن من قبل، ولم يوجد منه شيء بالنسبة إليك، فليس هو بأكثر من إيجاد الإنسان من علقة، بعد أن لم يكن شيئًا.
وعليه يقال: لقد تركت مرحلة النطفة مقابل مرحلة من الوحي، قد تركت أيضًا وهي فترة الرؤيا الصالحة، كما في الصحيحين: «أنه صلى الله عليه وسلم كان أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصالحة، يراها فتأتي كفلق الصبح»، فكان ذلك إرهاصًا للنبوة وتمهيدًا لها لمدة ستة أشهر، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح، أو ترى له جزء من ست وأربعين جزءًا من النبوة»، وهي نسبة نصف السنة من ثلاث وعشرين مدة الوحي، ولكن الرؤيا الصالحة قد يراها الرجل الصالح، ومثل ذلك تمامًا فترة النطفة، فقد تكون النطفة ولا يكون الإنسان، كما تكون الرؤيا ولا تكون النبوة، أما العلقة فلا تكون إلا في رحم وقرار مكين، ومن ثم يأتي الإنسان مخلقا كاملًا، أو غير مخلق على ما يقدر له.
فلما كانت فترة النطفة ليست بلازمة لخلق الإنسان، وكان مثلها فترة الرؤية ليست لازمة للنبوة ترك كل منها مقابل الآخر، ويبدأ الدليل بما هو الواقع المسلم على أن الله تعالى هو الخالق، والخالق للإنسان من علقة، فكان فيه إقامة الدليل من ذاتية المستدل، فالدليل هو خلق الإنسان، والمستدل به هو الإنسان نفسه، كما في قوله تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، فيستدل لنفسه من نفسه على قدرة خالقه سبحانه.
وإذا تم بهذا الاستدلال على قدرة الرب الخالق، كان بعده إقامة الدليل على صحة النبوة ورسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت المسألة السادسة وهي إعادة القراءة في قوله: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم}، إذ أقام الدليل على أنك مرسل من الله تبلّغ عنه وتقرأ باسمه، فاعلم أن تلك القراءة وهذا الوحي من ربك الأكرم، و{الأكرم} قالوا: هو الذي يعطي بدون مقابل، ولا انتظار مقابل، والواقع أن مجيء الوصف هنا بالأكرم بدلًا من أي صفة أخرى، لما في هذه الصفة من تلاؤم للسياق، ما لا يناسب مكانها غيرها لعظم العطاء وجزيل المنة.
فأولًا: رحمة الخليقة بهذه القراءة التي ربطت العباد بربهم. وكفى.
وثانيًا: نعمة الخلق والإيجاد، فهما نعمتان متكاملتان: الإيجاد من العدم بالخلق، والإيجاد الثاني من الجهل إلى العلم، ولا يكون هذا كله إلاَّ من الرب الأكرم سبحانه.
ثم تأتي المسألة الثامنة:
وهي من الدلالة على النبوة والرسالة، {وربك الأكرم الذي علم بالقلم}، سواء كان الوقف على: {اقرأ}، وابتداء الكلام: {وربك الأكرم الذي علم بالقلم}. أو الوقف على {الأكرم} وابتداء الكلام {الذي علم بالقلم}، لأن من يعلم الجاهل بالقلم، يعلم غيره بدون القلم بجامع التعليم بعد الجهل. فالقادر على هذا قادر على ذلك.
والتاسعة: بيان لهذا الإجمال حيث لم يبين ما الذي علمه بالقلم. فقال: {عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم}، وهذا مشاهد ملموس في أشخاصهم {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78].
فالله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وكل ما تعلمه الإنسان فهو من الله تعلمونهن مما علمكم الله، وهل الرسالة والنبوة إلا تعليم الرسول ما لم يكن يعلم؟ وبهذا تم إقامة الدليل على صحة النبوة، أي الرسالة والرسول والمرسل، وهي أسس الدعوة والبعثة الجديدة.
وقد اشتهر عند الناس أنه نبئ (باقرأ) وأرسل (بالمدثر) ولكن في نفس هذه السورة معنى الرسالة، لما قدمنا من أن القراءة باسم ربك، عار بأنه مرسل من ربه إلى من يقرأ عليهم، ففيها إثبات الرسالة من أول بدء الوحي.
تنبيه:
في قوله تعالى: {الذى عَلَّمَ بالقلم}، مبحث التعليم ومورد سؤال، وهو إذا كان تعالى تمدح بأنه علّم بالقلم وأنه علّم الإنسان ما لم يعلم، فكان فيه الإشادة بشأن القلم، حيث الله تعالى قد علم به، وهذا أعلى مراتب الشرف مع أنه سبحانه قادر على التعليم بدون القلم، ثم أورده في معرض التكريم في قوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1- 2]، وعظم المقسم عليه وهو نعمة الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بالوحي، يدل على عظم المقسم به، وهو القلم وما يسطرون به من كتابة الوحي وغيره.
وقد ذكر القلم في السنة أنواعًا متفاوتة، وكلها بالغة الأهمية.
منها: أولها وأعلاها: القلم الذي كتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، والوارد في الحديث: «أول ما خلق الله القلم، قال له: اكتب» الحديث.
فعلى رواية الرفع، يكون هو أول المخلوقات ثم جرى بالقدر كله، وبما قدر وجوده كله.
ثانيها: القلم الذي يكتب مقادير العام في ليلة القدر من كل سنة، المشار إليه بقوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4].
ثالثها: القلم الذي يكتب به الملك في الرحم ما يخص العبد من رزق وعمل.
ثالثها: القلم الذي بأيدي الكرام الكاتبين المنوه عنه بقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قول إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، أي بالكتابة كما في قوله: {كِرَامًا كَاتِبِينَ يعلمونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 11- 12]، إذا قلنا إن الكتابة في ذلك تستلزم قلمًا، كما هو الظاهر.
رابعًا: القلم الذي بأيدي الناس يكتبون به ما يعلمهم الله، ومن أهمها أقلام كتاب الوحي، الذين كانوا يكتبون الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتابة سليمان لبلقيس.
وقوله تعالى: {الذى عَلَّمَ بالقلم}، شامل لهذا كله، إذا كان هذا كله شأن القلم وعظم أمره، وعظيم المنة له على الأمة، بلى وعلى الخليقة كلها.
وقد افتتحت الرسالة بالقراءة والكتابة، فلم إذا لم يكن النَّبي صلى الله عليه وسلم الذي أعلن عن هذا الفضل كله للقلم! لم يكن هو كاتبًا به، ولا من أهله بل هو أمي لا يقرأ ولا يكتب، كما في قوله: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولًا مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2].
والجواب: أنا أشرنا أولًا إلى ناحية منه، وهي أنه أكمل للمعجزة، حيث أصبح النَّبي الأمي معلمًا كما قال تعالى: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيعلمهُمُ الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164].
وثانيًا: لم يكن هذا النَّبي الأمي مُغْفِلًا شأن القلم، بل عنى به كل العناية، وأولها وأعظمها أنه اتخذ كتّابًا للوحي يكتبون ما يوحى إليه بين يديه، مع أنه يحفظه ويضبطه، وتعهد الله له بحفظه وبضبطه في قوله تعالى: {سَنُقرئكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَاءَ الله}
[الأعلى: 6- 7]، حتى الذي ينساه يعوضه الله بخير منه أو مثله، كما في قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ووعد الله تعالى بحفظه في قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ومع ذلك، فقد كان يأمر بكتابة هذا المحفوظ وكان له عدة كتاب، وهذا غاية في العناية بالقلم.
وذكر ابن القيم من الكتاب الخلفاء الأربعة، ومعهم تتمة سبعة عشر شخصًا، ثم لم يقتصر صلى الله عليه وسلم في عنايته بالقلم والتعليم به عند كتابة الوحي، بل جعل التعليم به أعم، كما جاء خبر عبد الله بن سعيد بن العاص «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعلم الناس الكتابة بالمدينة، وكان كاتبًا محسنًا» ذكره صاحب الترتيبات الإدارية عن ابن عبد البر في الاستيعاب.
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال: «علّمت ناسًا من أهل الصفة الكتابة والقرآن».
وقد كانت دعوته صلى الله عليه وسلم، الملوك إلى الإسلام بالكتابة كما هو معلوم.
وأبعد من ذلك، ما جاء في قصة أسارى بدر، حيث كان يفادي بالمال من يقدر على الفداء، ومن لم يقدر. وكان يعرف الكتابة مفاداته أن يعلم عشرة من الغلمان الكتابة، فكثرت الكتابة في المدينة بعد ذلك.
وكان ممن تعلم: زيد بن ثابت وغيره.
فإذا كان المسلمون وهم في بادئ أمرهم وأحوج ما يكون إلى المال والسلاح، بل واسترقاق الأسارى فيقدمون تعليم الغلمان الكتابة على ذلك كله، ليدل على أمرين:
أولهما: شدة وزيادة العناية بالتعليم.
وثانيهما: جواز تعليم الكافر للمسلم ما لا تعلق له بالدين، كما يوجد الآن من الأمور الصناعية، في الهندسة، والطب، والزراعة، والقتال، ونحو ذلك.
وقد كثر المتعلمون بسبب ذلك، حتى كان عدد كتاب الوحي اثنين وأربعين رجلًا ثم كان انتشار الكتابة مع الإسلام، وجاء النص على الكتابة في توثيق الدين في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} [البقرة: 282] الآية، وهي أطول آية في كتاب الله تعالى رسمت فيهم كتابة العدل الحديثة كلها.
وإذا كان هذا شأن القلم وتعلمه، فقد وقع الكلام في تعليمه للنساء على أنهن شقائق الرجال في التكليف والعلم، فهل كن كذلك في تعلم الكتابة أم لا؟
مبحث تعليم النساء الكتابة:
وقع الخلاف بسبب نصين في المسألة:
الأول: حديث الشفاء بنت عبد الله قالت: «دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة، فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة؟» رواه المجد في المنتقى عن أحمد وأبي داود وقال بعده: وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة.
والثاني: حديث عائشة رواه الحاكم وصححه البيهقي مرفوعًا: «لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة- يعني النساء- وعلموهن الغزل وسور النور» قال الشوكاني في نيل الأوطار، على حديث المنتقى وحديث الفساد، أعني تعليم الكتابة والقراءة. أما تعليم العلم فليس محل خلاف، والواقع أن هذه المسألة واضحة المعالم، إذا نظرت كالآتي:
أولًا: لا شك أن العلم من حيث هو خير من الجهل، والعلم قسمان: علم سماع وتلقي، وهذه سيرة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعائشة كانت القدوة الحنة في ذلك في فقه الكتاب والسنة، وكم استدركت على الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وهذا مشهور ومعلوم.
والثاني: علم تحصيل بالقراءة والكتابة، وهذا يدور مع تحقق المصلحة من عدمها، فمن رأى أن تعلميهن مفسدة منعه، كما روي عن علي رضي الله عنه: أنه مرَّ على رجل يعلم امرأة الكتابة فقال: لا تزد الشر شرًا.
وروي عن بعض الحكماء: أنه رأى امرأة تتعلم الكتابة، فقال: أفعى تسقى سمًا، وانشدوا الآتي:
ما للنساء وللكتا ** بة والعمالة والخطابة

هذا لنا ولهن منا ** أن يبتن على جنابه

ومثله ما قاله المنفلوطي:
يا قوم لم تخلق بنات الورى ** للدرس والطرس وقال وقيل

لنا علوم ولها غيرها ** فعلّموها كيف نشر الغسيل

والثوب والإبرة في كفها ** طرس عليه كل خط جميل

وهذا نظر إلى تعلميهن وموقفهن من زاوية واحدة. كما قال الشاعر الآخر:
كتب القتل والقتال علينا ** وعلى الغانيات جر الذيول

مع أننا وجدنا في تاريخ المرأة نسوة شاركن في القتال، حتى عائشة رضي الله عنها كانت تسقي الماء، وأم سلمة تداوي الجرحى، إذ لا يؤخذ قول كل منهما على عمومه.
قال صاحب التراتيب الإدارية: أورد القلنشدي أن جماعة من النساء كن يكتبن، ولم ير أن أحدا من السلف أنكر عليهم. اهـ.
ومن المعلوم رواية: «كريمة» لصحيح البخاري، وهي من الرواية المعتبرة عن المحدثين، فقد رأيت بنفسي وأنا مدرس بالأحساء نسخة لسنن أبي داود عند آل المبارك وعليها تعليق لأخت صلاح الدين الأيوبي، وذكر صاحب التراتيب الإدارية قوله: وقد ثبت عن كثير من نساء أهل الصحراء الإفريقية خصوصًا شنقيط: شنجط، أي شنقيط، وهي المعروفة الآن بموريتانيا، وتيتبكتو، وقبيلة كنت العجب، حتى جاء أن الشيخ المختار الكنتي الشهير، ختم مختصر خليل للرجال، وختمته زوجته في جهة أخرى للنساء. اهـ.
ومما يؤيد ما ذكره أننا ونحن في بعثة الجامعة الإسلامية لإفريقيا، سمعنا ونحن في مدينة أطار وهي على مقربة من مدينة شنجيط المذكورة، سمعنا من كبار أهلها أنه كان يوجد بها سابقًا مائتا فتاة يحفظن المدونة كاملة.
وقد سمعت في الآونة الأخيرة، أنه كانت توجد امرأة تدريس في المسجد النبوي، الحديث، والسيرة، واللغة العربية وهي شنقيطية.
ويجب أن تكون النظرة لهذه المسألة على ضوء واقع الحياة اليوم وفي كل يوم، وقد أصبح تعليم المرأة من متطلبات الحياة، ولكن المشكلة تكمن في منهج تعليمها، وكيفية تلقيها العلم.
فكان من اللازم أن يكون منهج تعليمها قاصرًا على النواحي التي يحسن أن تعمل فيها كالتعليم والطب وكفى.
أما كيفية تعليمها، فإن مشكلتها إنما جاءت من الاختلاط في مدرجات الجامعات، وفصول الدراسة في الثانويات في فترة المراهقة، وقلة المراقبة، وفي هذا يكمن الخطر منها وعليها في آن واحد، فإذا كان لابد من تعليمها، فلابد أيضًا من المنهج الذي يحقق الغاية منه ويتضمن السلامة فيه، والتوفيق من الله سبحانه.
أما ما يخشى عليها من الاتصال عن طريق الكتابة، فقد وجد ما هو أقرب وأسرع منها لمن شاءت وهو الهاتف في البيوت، فإنه في متناول المتعلمة والجاهلة. والمدار في ذلك كله على الحصانة التربوية والمتانة الدينية والقوة الأخلاقية.
أما ما يخشى عليها من الاتصال عن طريق الكتابة، فقد وجد ما هو أقرب وأسرع منها لمن شاءت وهو الهاتف في البيوت، فإنه في متناول المتعلمة والجاهلة. والمدار في ذلك كله على الحصانة التربوية والمتانة الدينية والقوة الأخلاقية.
وقد أوردت هذا المبحث استطرادًا لبيان وجهة النظر في المسألة، اقتباسًا من قوله تعالى: {الذى عَلَّمَ بالقلم}، وبالله التوفيق.
مسألة:
بيان أولية الكتابة عامة والعربية خاصة، وأول من خط بالقلم على الأرض: جاء في المطالع النصرية للمطابع المصرية في الأصول الخطية المطبوع سنة 1304 ه ما نصه: وإنما أصول الكتابة اثني عشر على ما قاله ابن خلكان، وتبعه كثير من المؤلفين، كالدميري في حياة الحيوان، والحلبي في السيرة وغيرهما.
قال: إن جميع كتابات الأمم من سكان المشرق والمغرب اثنتي عشرة كتابة، خمس منها ذهب من يعرفها وبطل استعمالها وهي: الحميرية، والقبطية، والبربرية، والأندلسية، واليونانية، وثلاث منها فقد من يعرفها في بلاد الإسلام ومستعمله في بلادها، وهي السريانية والفارسية والعبرانية والعربية. اهـ. كلامه باختصار وفيه ما فيه.
قال: والحميرية: هي خط أهل اليمن قوم هود وهم عاد الأولى، وهي عاد إرم، وكانت كتابتهم تسمى المسند الحميري، وكانت حروفها كلها منفصلة، وكانوا يمنعون العامة من تعلمها فلا يتعاطاها أحد إلا بإذنهم، حتى جاءت دولة الإسلام، وليس بجميع اليمن من يكتب ويقرأ.
وقال المقريزي في الخطط: القلم المسند، هو القلم الأول من أقلام حمير وملوك عاد. اهـ.
والمعروف الآن أن الحروف المستعملة في الكتابة في العالم كله بصرف النظر عن اللغات المنطوق بها هي ثلاثة فقط، الخط العربي بحروف ألف باء وبها لغات الشرق. والحروف اللاتينية وبها لغات أوروبا والحروف الصينية.
أما اللغات، وهي فوق ألفي لغة (والأمهرية بحرف قريب من اللاتيني).
أما أولية الكتابة العربية، فقال صاحب المطالع النصرية: فقد اختلفت الروايات فيها، كما قاله الحافظ السيوطي في الأوائل.
وكذا في المزهر في النوع الثاني والأربعين، قال: إنه يرى آدم عليه السلام أول من كتب بالقلم، وأن الكتابات كلها من وضعه، كان قد كتبها في طين وطبخه، يعني أحرقه ودفنه قبل موته بثلاثمائة سنة، وبعد الطوفان وجد كل قوم كتابًا فتعلموه، وكانت اثنى عشر كتابًا، فتعلموه بإلهام إلهي.
وقيل: إن أول من خط بالعربي إسماعيل عليه السلام. اهـ.
وقد أطال السيوطي في المزهر الكلام في هذه المسألة، نقلًا عن ابن فارس الشدبامي.
وعن العسكري عن الأوائل في ذلك أقوال، فقيل إسماعيل، وقيل: مرار بن مرة، وهما من أهل الأنبار، وفي ذلك يقول الشاعر:
كتبت أبا جاد وخطى مرامر ** وسورت سربالي ولست بكاتب

وقيل: أول من وضعه أبجد، وهوز وحطي، وكلمن، وصعفص، وقرشت، وكانوا ملوكًا فسمي الهجاء بأسمائهم.
وذكر عن الحافظ أبي طاهر السلفي بسنده عن الشعبي قال: أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس، تعلّم من أهل الحيرة، وتعلم أهل الحيرة من أهل الأنبار.
وقال أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف: حدثنا عبد الله بن محمد الزهري حدثنا سفيان عن مجالد عن الشعبي قال: سألنا المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: تعلمنا من أهل الحيرة، وسألنا أهل الحيرة: من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الأنبار، ثم قال ابن فارس: والذي نقوله إن: الخط توفيقي، وذلك لظاهر قوله تعالى: {الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يعلم}.
وقوله: {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1].
وإذا كان هذا فليس ببعيد، أن يوقف الله آدم أو غيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتابة، فأما أن يكون شيئًا مخترعًا اخترعه من تلقاء نفسه، فهذا شيء لا نعلم صحته إلاَّ من خبر صحيح.
قال السيوطي: قلت يؤيد ما قاله من التوقيف، ما أخرجه ابن شقة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «أول كتاب أنزله الله من السماء أبا جاد».
وأخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول من خط بالقلم إدريس عليه السلام».اهـ.
وقد أطال النقول في ذلك مما يرجع إلى الأول، وليس فيه نقل صحيح يقطع به.
وقد أوردنا هذه النبذة بخصوص كلام ابن فارس، من أن تعليم الكتابة أمر توفيقي، وما استدل به السيوطي من أول كتاب أنزله الله في السماء، فإن في القرآن ما يشهد لإمكان ذلك، وهو أن الله تعالى أنزل الصحف لموسى مكتوبة.
وفي الحديث: «إن الله كتب الألواح لموسى بيده، وغرس جنة عدن بيده».
وإذا كان موسى تلقى ألواحًا مكتوبة، فلابد أن تكون الكتابة معلومة له قبل إنزالها، وإلاَّ لما عرفها.
أما المشهور في الأحرف التي نكتب بها الآن، فكما قال السيوطي في المزهر، ونقله عنه صاحب المطالع المصرية ما نصه:
المشهور عند أهل العلم ما رواه ابن الكلبي عن عوانة، قال: أول من كتب بخطنا هذا.
وهو الجزم مرامر بن مرة، وأسلم بن سدرة، وعامر بن حدرة. كما في القاموس. وهم من عرب طيء تعلموه من كتاب الوحي لسيدنا هود عليه السلام، ثم علّموه أهل الأنبار، ومنهم انتشرت الكتابة في العراق والحيرة وغيرها، فتعلمها بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك صاحب دومة الجندل، وكانت له صحبة بحرب بن أمية فتعلم حرب منه، ثم سافر معه بشر إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب أخت أبي سفيان. فتعلم منه جماعة من أهل مكة.
فبهذا كثر من يكتب بمكة من قريش قبيل الإسلام.
ولذا قال رجل كندي من أهل دومة الجندل، يمن على قريش بذلك:
لا تجحدوا نعماء بشر عليكم ** فقد كان مَيمون النقيبة أزهرا

أتاكم بخط الجزم حتى حفظتموا ** من المال ما قد كان شتى مبعثرا

وأتقنتموا ما كان بالمال مهملا ** وطأمنتموا ما كان منه مبقرأ

فأجريتم الأقلام عودًا وبدأة ** وضاهيتم كتاب كسرى وقيصرا

وأغنيتم عن مسند إلى حميرا ** وما زبرت في الصحف أقلام حميرا

قال: وكذلك ذكر النووي في شرح مسلم نقل عن الفراء، أنه قال: إنما كتبوا الربا في المصحف بالواو، لأن أهل الحجاز تعلموا الخط من أهل الحيرة، ولغتهم الربوا، فعلموهم صورة الخط على لغتهم. اهـ.
تنبيه آخر:
قوله تعالى: {الذى عَلَّمَ بالقلم}، لا يمنع تعليمه تعالى بغير القلم، كما في قصة الخضلر مع موسى عليه السلام في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65].
وكما في حديث: «نفث في روعي أنه لن تموت نفس، حتى تستكمل رزقها وأجلها» الحديث.
وكما في حديث الرقية بالفاتحة لمن لدغته العقرب في قصة السرية المعروفة، فلما سأله صلى الله عليه وسلم: «وما يدريك أنها رقية؟ قال: شيء في نفث روعي».
وحديث علي لما سئل «هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم؟ قال: لا، إلا فهمًا يؤتيه الله من شاء في كتابه. وما في هذه الصحيفة».
وقوله: واتقوا الله ويعلمكم الله. نسال الله علم ما لم نعلم، والعمل بما نعلم. وبالله التوفيق.
{كَلَّا إِنَّ الإنسان ليطغى (6) أَنْ رَآهُ استغنى (7)}
ظاهر هذه الآية أن الاستغناء موجب للطغيان عند الإنسان، ولفظ الإنسان هنا عام، ولكن وجدنا بعض الإنسان يستغني ولا يطغى، فيكون هذا من العام المخصوص، ومخصصه إما من نفس الآية أو من خارج عنها، ففي نفس الآية ما يفيده قوله تعالى: {أَن رَّآهُ استغنى}، أي إن رأي الإنسان نفسه، وقد يكون رأيًا واهمًا ويكون الحقيقة خلاف ذلك، ومع ذلك يطغى، فلا يكون الاستغناء هو سبب الطغيان.
ولذا جاء في السنة: ذك العائل المتكبر، لأنه مع فقره يرى نفسه استغنى، فهو معنى في نفسه لا بسبب غناه.
أما من خارج الآية، فقد دل على هذا المعنى، قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} [النازعات: 37- 39]، فإيثار الحياة الدنيا هو موجب الطغيان، وكما في قوله تعالى: {الذى جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة} [الهمزة: 2- 4] الآية.
ومفهومه: أن من لم يؤثر الحياة الدنيا، ولم يحسب أن ماله أخلده، لن يطغيه ماله ولا غناه، كما جاء في قصة النفر الثلاثة الأعمى والأبرص والأقرع من بني إسرائيل.
وقد نص القرآن على أوسع من غنى في الدنيا في نبي الله سليمان، آتاه الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، ومع هذا قال: {فَقال إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوَارَتْ بالحجاب رُدُّوهَا على فَطَفِقَ مَسْحًا بالسوق والأعناق} [ص: 32- 33] الآية.
وقصة الصحابي الموجودة في الموطأ: لما شغل ببستانه في الصلاة، حين رأى الطائر لا يجد فرجة من الأغصان، ينفذ منه، فجاء إلى النَّبي وقال: «يا رسول الله: إني فتنت ببستاني في صلاتي، فهو في سبيل الله» فعرفنا أن الغني وحده ليس موجبًا للطغيان، ولكن إذا صحبه إيثار الحياة الدنيا علي الآخرة، وقد يكون طغيان النفس من لوازمها لو لم يكن غنى. إن النفس لأمارة بالسوء. وأنه لا يقي منه إلا التهذيب بالدين كما قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ} [الشورى: 27] الآية.
وقد ذكر عن فرعون تحقيق ذلك حين قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51]، وكذلك قال قارون {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78]، وقال: ثالث الثلاثة من بني إسرائيل «إنما ورثته كابرًا عن كابر بخلاف المسلم» إلى آخره. فلا يزيده غناه إلا تواضعًا وشكرًا للنعمة، كما قال نبي الله سليمان {قال هذا مِن فَضْلِ رَبِّي ليبلونيا أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقد نص في نفس السورة أنه شكر الله {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قولها وَقال رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ على وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19].
وفي العموم قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قال رَبِّ أوزعني أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ على وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين} [الأحقاف: 15].
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحاب المال الوفير فلم يزدهم إلا قربًا لله، كعثمان بن عفان رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وأمثالهم، وفي الآية ربط لطيف بأول السورة، إذا كان خلق الإنسان من علق، وهي أحوج ما يكون إلى لطف الله وعنايته ورحمته في رحم أمه، فإذا بها مضغة ثم عظام، ثم تكسى لحمًا، ثم تنشأ خلقا آخر، ثم يأتي إلى الدنيا طفلًا رضيعًا لا يملك إلا البكاء، فيجري الله له نهرين من لبن أمه، ثم ينبت له الأسنان، ويفتق له الأمعاء، ثم يشب ويصير غلامًا يافعًا، فإذا ما ابتلاه ربه بشيء من المال أو العافية، فإذا هو ينسى كل ما تقدم، وينسى حتى ربه ويطغى ويتجاوز حده حتى مع الله خالقه ورازقه، كما رد عليه تعالى بقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خلقناهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خلقهُ قال مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 77- 79] الآية.
ومما في الآية من لطف التعبير قوله تعالى: {أَن رَّآهُ استغنى}، أي أن الطغيان الذي وقع فيه عن وهم، تراءى له، أنه استغنى سواء بماله أو بقوته. لأن حقيقة المال ولو كان جبالًا، ليس له منه إلاَّ ما أكل ولبس وأنفق.
وهل يستطيع أن يأكل لقمة واحدة إلا بنعمة العافية، فإذا مرض فماذا ينفعه ماله، وإذا أكلها وهل يستفيد منها إلا بنعمة من الله عليه.
ومن هذه الآية أخذ بعض الناس، أن الغني الشاكر أعظم من الفقير الصابر، لأن الغني موجب للطغيان.
وقد قال بعض الناس: الصبر على العافية، أشد من الصبر على الحاجة.
{كَلَّا لئن لم ينته لَنَسْفَعًا بالناصية (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خاطئة (16)}
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب: أسند الكذب إلى الناصية، وفي مواضع أخرى أسنده إلى غير الناصية، كقوله: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون} [النحل: 105].
وذكر الجواب بأنه أطلق الناصية وأراد صاحبها على أسلوب لإطلاق البعض وإيراد الكل، وذكر الشواهد عليه من القرآن كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
والذي ينبغي التنبيه عليه من جهة البلاغة: أن البعض الذي يطلق ويراد به الكل، لابد في هذا البعض من مزيد مزية للمعنى المساق فيه الكلام.
فمثلًا هنا ذم الكذب وأخذ الكاذب بكذبه، فجاء ذكر الناصية وهي مقدم شعر الرأس، لأنها أشد نكارة على صاحبها ونكالًا به، إذ الصدق يرفع الرأس والكذب ينكسه ذلة وخزيًا.
فكانت هي هنا أنسب من اليد أو غيرها، بينما في أبي لهب تطاول بماله، والغرض مذمة ماله وكسبه الذي تطاول به، واليد هي جارحة الكسب، وآلة التصرف في المال، فكانت اليد أولى فيه من الناصية.
وهكذا كما يقولون: بث الأمير عيونه: يريدون جواسيس له، لأن العين من الإنسان أهم ما فيه لمهمته تلك. ولم يقولوا: بث أرجله ولا رؤوسًا ولا أيد، لأنها كلها ليست كالعين في ذلك.
ومن هذا القبيل {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8]، {يا أيتها النفس المطمئنة} [الفجر: 27].
لأن القلب هو مصدر الخوف والنفس هي محط الطمأنينة، على أن النفس جزء من الإنسان، وهكذا، ومنه الآتي {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب} [العلق: 19]، أطلق السجود وأراد الصلاة، لأن السجود أخص صفاتها.
{كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ واقترب (19)}
ربط بين السجود والاقتراب من الله كما قال: {وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] وقوله: في وصف أصحابه رضي الله عنهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، فقوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ الله وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]، في معنى يتقربون إليه يبين قوله: {واسجد واقترب} وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى الله، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر، كما بين تعالى في قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45].
وقال صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد». اهـ.